لا شك أن شعرة رفيعة تفصل بين الثوري الحالم والسياسي الملتزم، فكلاهما ينطلق من رؤية مبدئية نبيلة لمستقبل الوطن وغالبية شعبه ورغبة مخلصة في تقدم البلاد وإصلاح أحوال العباد، إلا أن الأول يكاد يقتصر في سعيه لتحقيق حلمه علي قاعدة «أن ما لا يدرك كله يترك جله» بينما يستند الثاني لتطبيق رؤيته علي قاعدة أخري هي «أن ما لا يدرك كله لا يترك جله». وليس هذا فقط، فالأول غالباً ما يقرأ الواقع
الذي يتعامل معه ويحلم بتغييره والتاريخ الذي سبقه من منظور رؤية نظرية يراها ثابتة لا تحتمل التغيير ولا الخطأ، بينما يتعامل الثاني معهما وفقاً لما جري ويجري فيهما بالفعل من وقائع وما يحملانه من خبرات ودلالات لا يمكنه تجاهلها عند سعيه إلي تغيير الواقع إلي الصورة الأفضل التي يراها للبلاد والعباد. هذان المنظوران للسعي نحو تغيير الأحوال المصرية المتردية تجاورا دوماً وتصارعا في أوساط النخبة المصرية الحديثة منذ بداية تشكلها في عهد محمد علي، وبخاصة في السنوات التي تلت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وحتي اليوم. وخلال هذه السنوات بدا واضحاً أن قضية التغيير الأكثر جدية وجذرية للأحوال المصرية بكافة جوانبها هي التي انصب حولها الخلاف بين المنظورين وبخاصة جانبين رئيسيين لهذه القضية: الأول هو مدي التغيير وحجمه، والثاني هو القوي الرئيسية التي يمكن أن تقود إليه. وكما يحدث في كل مرة يبدو فيها التغيير ضروريا وملحاً أو وارداً ومحتملاً، تتأرجح النخبة المصرية اليوم بين هذين المنظورين في ظل المؤشرات الكثيرة المتتابعة الدالة علي أننا نمر بمرحلة انتقالية حاسمة في تطور النظام السياسي الحالي وبخاصة فيما يتعلق بموقع رئاسة الدولة فيه. وكان كاتب هذه السطور واضحاً منذ البداية في تناوله لهذه القضية في تلك المساحة وغيرها في انحيازه الصريح للمنظور السياسي الملتزم في معالجتها دون التخلي عن رومانسية الحلم بمستقبل أفضل لمصر وشعبها، علي ألا تصبح هذه الرومانسية وحدها هي التي تقود التحليل والموقف المترتب عليه. ومع ذلك فقد قرأ بعض الزملاء الأعزاء، مثل الأستاذ عماد عطية في مقالين بجريدة البديل، بصورة خاطئة ما سبق أن طرحناه هنا حول مستقبل منصب الرئاسة والأدوار المنوط بقوي المعارضة القيام بها تجاهه. والقضية بصورة أوضح هي أن المنظور الأول والذي يتبناه الأستاذ عطية ومعه قطاع من النخبة المصرية تجاه مسألة الرئيس القادم لمصر ينطلق من نقطتين أساسيتين كلاهما الخطأ فيه أكثر بكثير من الصواب. النقطة الأولي هي أن هناك احتمالاً ثالثاً للرئيس القادم غير أن يكون نجل الرئيس السيد جمال مبارك أو أحد قيادات المؤسسة العسكرية، والثانية هي أن كاتب هذه السطور وغيره ممن تحدثوا عن الاحتمال الثاني إنما هم يؤيدونه بلا تحفظ ويعطون الرئيس القادم تفويضاً «علي بياض» لحكم البلاد. والحقيقة أن الخطأ الأول يعبر وبدقة عن المنظور الثوري الحالم الذي غالباً ما يقرأ الواقع والتاريخ الذي سبقه عبر رؤية نظرية يراها ثابتة لا تحتمل التغيير ولا الخطأ ويستند علي قاعدة «أن ما لا يدرك كله يترك جله». فالحديث عن احتمال ثالث مبهم الملامح غامض التعريف يعكس قراءة مشوشة للواقع الذي تكاد تفاصيله وقسماته باحتماليه شبه الوحيدين أن تخرق الأعين، كما يعكس «حلماً» قديماً نبيلاً ومشروعاً لدي أصحاب هذا المنظور – وكثير من المصريين – وإن كان غير متحقق في الواقع بما يجعله احتمالاً وارداً، بأن تستطيع القوي السياسية المصرية الرئيسية قيادة غالبية المصريين الغاضبين المطحونين لتغيير واسع وجذري للنظام السياسي الحالي واختيار مكوناته وفي مقدمتها رئيسه بصورة ديمقراطية عادلة. فالتغيير هنا حسب هذا المنظور لا يمكن أن يعترف به تغييراً حقيقياً إلا إذا امتد أفقياً ورأسياً ليشمل أوسع وأعمق مساحة من المجتمع والدولة، وهو أيضاً لا يعد كذلك إلا إذا كان فاعلوه الرئيسيون من القوي الشعبية ونخبتها بعيدين تماماً عن كل ما يتصل بالدولة والنظام السياسي. وهذا النوع من التغيير بهؤلاء الفاعلين ظل دوماً هو المثال الذي يسعي أصحاب المنظور الحالم يأملون في حدوثه منذ بدايات القرن الماضي، وهو أيضاً الذي لم يحدث قط بهذه الدرجة ولا علي أيدي هؤلاء الفاعلين. فقد ظلت الدولة وبعض من قواها الرئيسية هي واحد من أبرز قائدي التغيير في مصر منذ أن أسسها محمد علي باشا بصورتها الحديثة قبل قرنين، سواء كان تغييراً للأفضل أو للأسوأ وبكافة المساحات والأعماق التي شملها في كل مرة. إلا أن «الغشاوة» الأيديولوجية الحالمة التي يضعها أصحاب هذا المنظور علي أعينهم تحول بينهم وبين القراءة الأدق للتاريخ المصري والرؤية الأصح للواقع الراهن الذي يمر بمرحلة التحول الحاسم الحالية وتجعلهم يهربون إلي الأمام بحثاً عن الاحتمال الثالث الغائبة كل ملامحه سواء في ذلك التاريخ أو هذا الواقع. وهنا تظهر النقطة الثانية الخاطئة في قراءة ذلك المنظور، وهي الحديث المغلوط عن تفويض «علي بياض» لرئيس عسكري قادم وحتي «بدون عقد صفقة معه حول بعض المطالب ثمناً لتأييده»، بحسب تعبير الأستاذ عماد عطية. فالأصل الحقيقي لهذه القراءة الشائعة لدي أصحاب المنظور الحالم هو ما يمكن تسميته وبدون مواربة «عقدة يوليو»، وهي وبدون مواربة أيضاً توقف قطاعات من النخبة اليسارية والإسلامية المصرية عند ما جري من وقائع بين نظام الرئيس عبد الناصر والقوي الشيوعية والإخوان المسلمين واعتبار أن أي سيناريو قادم لرئيس ذي أصول عسكرية سيكرر ما جري قبل نصف قرن. والأكثر خطورة في هذه الرؤية هو أن أصحابها ينطلقون من رؤية أقرب للمسيحية الدينية، علي الرغم من أن أصحابها يساريون وإسلاميون، تري في يوليو ونظامها «الخطيئة الأولي» التي ترتبت عليها كل الكوارث التي ألمت بمصر خلال العقود الأربعة التي تلت رحيل الرئيس عبد الناصر، مغفلين في ظلها كافة التطورات العميقة والواسعة التي لحقت بالنظام السياسي المصري خلال تلك الفترة الطويلة. من هنا أيضاً فإن قراءة أكثر خطأ لحال المؤسسة العسكرية اليوم بدت حاضرة في كتابات أصحاب المنظور الحالم لتبرير رفضهم لاحتمال تولي أحد قياداتها رئاسة الدولة، خالطين بينها بدون أي سند أو أدلة كافية وبين الحزب الحاكم وطبقة رجال الأعمال الجدد وممارسات النظام السياسي المعادية للديمقراطية ولحقوق المصريين في العيش الكريم والحرية والعدل الاجتماعي، أو معممين لحالات فردية معزولة علي عموم تلك المؤسسة التي لم تكن يوماً بعيدة عن مشاعر وأحلام ومعاناة المصريين. إن ما طرحناه في المقالين الأخيرين لم يكن سوي تطبيق للمنظور السياسي الملتزم بدعوة لقوي المعارضة المصرية للتعامل العملي مع الاحتمالين الأكثر واقعية لمستقبل الرئاسة بما يضمن ألا يأتي أحدهما بدون مشاركتها وبما لا يتضمن أي تفويض منها «علي بياض» لأي رئيس قادم. أما موقف الكاتب الشخصي من تلك المسألة فقد سبق أن طرحه في هذه المساحة في ٧ أبريل ٢٠٠٨ في مقال حمل عنوان «حديث عن بلد آخر بعيد»، وكان المقصود به مصر وليس أي بلد آخر. وقد طرحنا حينها أن تقوم الصياغة المقترحة للتعامل مع هذه المسألة «علي أن يتم تعديل دستور البلاد بحيث ينص فيه بصورة واضحة علي ملامح الدولة الحديثة التي تقوم علي حكم الدستور والقانون ولا تميز بين أحد من مواطنيها علي أي أساس وتعطي للجميع حرياتهم الأساسية الفردية والجماعية في العمل السياسي والحزبي دون قيود غير دستورية أو قانونية وتعطي للمحكمة الدستورية وحدها حق تفسير الدستور والبت فيما يخالفه. كما يتضمن الاقتراح أن ينص الدستور علي أن يتشكل مجلس للأمن القومي في البلاد علي غرار القائم في تركيا تكون مهمته هي الحفاظ علي أمنها القومي خارجياً وما يرتبط به في الداخل وتطبيق دستورها بكافة مواده وأحكامه داخلياً، علي أن يكون رئيس الجمهورية، الذي يتولي القيادة العليا للقوات المسلحة ويشرف علي السياسة الخارجية بما لا يضعها في تناقض مع مقومات الأمن القومي، من بين أعضاء ذلك المجلس ويطرح اسمه للاستفتاء العام علي أن تكون مدة رئاسته خمسة أعوام قابلة للتمديد مرة واحدة. ويكتمل الاقتراح بأن ينص الدستور علي أن تحكم البلاد عبر حكومة يشكلها حزب أو أحزاب الأغلبية وتخضع لكل ما تخضع له الحكومات البرلمانية في مختلف دول العالم، وتدير البلاد حسب البرنامج الذي انتخبها الناس علي أساسه، تحت رقابة الرأي العام ومجلس الأمن القومي والمحكمة الدستورية العليا».